“السلام عليكم، كيف حالك؟”
يفترض أن تصبح هذه الجملة شعار عصر التواصل الذي نعيشه، فهي الجملة التي نبدأ بها رسائلنا عبر برامج التراسل. في الكثير من الأحيان لا تحصل على رد إلا بعد مرور بضع ساعات وربما أيام. لكن استهلال الحديث بهذه الجملة يكشف عن ظاهر اجتماعية حديثة، وهي أن برامج التواصل جعلتنا نفترض أن أي شخص متواجد للرد فوراً وكأنه وجوده في الحياة مرهون بالإجابة على رسائلنا.
كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟
عهد الماسنجر
أول من استخدم حالة الاتصال كان برامج التراسل الفوري التي ازدهرت من اواخر التسعينات إلى منتصف العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. كان كل من Yahoo Messenger و MSN Messenger يتصدران ساحات التراسل الفوري مع وجود برامج اخرى مثل mIRC و ICQ (وهذان الأخيران مازالا يعملان).
كانت حالات الاتصال أحمد السمات الجميلة في MSN و Yahoo ، فقد كانت تظهر للآخرين إذا كنت متوفراً، مشغولاً او بعيداً، ويمكنك كتابة رسالة في الحالة، ورغم أن هذه الميزات أصبحت شيئاً عادياً، إلا أنها كانت بالنسبة لنا شيئاً رائعاً.
لم نكن نحاول أن نرسل لأحد كانت حالته “مشغول” لأنه نوع من قلة الأدب، حتى لو كنا نعتقد أن الشخص حولها لمشغول ليتفادى التحدث إلى كل جهات الاتصال.
كانت لدي عادة غريبة لا أدري إذا كنت الوحيد الذي يقوم بها، أم أنها كانت ظاهرة عالمية؟ فبمجرد تسجيل دخولي كنت ألقي التحية على أي شخص متواجد. وذلك يعني فتح عدة نوافذ وإلقاء التحية والسؤال على الحال، حتى لو لم يتجاوز الحديث السلام ورده. لك أن تتخيل غباء هذا الفعل اليوم، فهل تتخيل أن تقوم كل يوم بالدخول على جميع جهات الاتصال لإلقاء التحية والسلام؟
كنت أحس بالعيب وقتها، فكيف أتواجد وأرى الشخص دون أن اسلم عليه، وأشك أن سبب ذلك هو عدد جهات الاتصال المحدود بالأقارب والأصدقاء المتواجدين على هذه البرامج. كما أنه كان من النادر أن تجد الكثير من الناس متواجدين في نفس الوقت.
ثم فجأة وكأنه حلم قيلولة الظهيرة، حدثت الكثير من التغييرات. جاء الهاتف الذكي، ظهرت برامج تراسل جديدة، توقف خدمات التراسل القديمة وحلت محلها الجديدة، وتغيرت نظرو المجتمع للتواصل الفوري مرة اخرى.
PING
أول من قدم الشكل الجديد للتراسل على مستوى واسع، خصوصاً في الأواسط الشبابية، كان BlackBerry Messenger او ما كان يرمز له بـ BBM. كان شيئاً جديداً، لمحة من المستقبل، التواصل الفوري في جيبك، في كل مكان وأي مكان، وغيرها من الشعارات التسويقية الرنانة.
لم تعد هناك حاجة إلى الجلوس أمام شاشة الكمبيوتر، فقد أصبح بإمكانك إرسال رسائل فورية لأي شخص يمتلك BlackBerry، كما كان يمكنك معرفة إذا كان هذا الشخص قد قرأ الرسالة، ولو لم يقم بالرد، فكنت تستطيع إرسال Ping تنبيهي (وأكثر من مرة) لتلفت انتباهه لرسالتك المهمة، ولا أدري لم لا تتصل لو كان الأمر مهما؟ لكن هذا التصرف كان منطقياً لأصحاب BlackBerry كما هو منطقي لأصحاب WhatsApp حالياً.
كان BBM حصريا على ملاك هواتف BlackBerry وكما أصبحت أجهزة iPhone تدل على “البرستيج” فإن هواتف BlackBerry كانت “برستيج” تلك الفترة، وحتى مع بداية ظهور الهواتف الذكية، لم تتأثر هواتف BlackBerry لأن برامج التراسل لم تكن رائجة بعد كما أن أنظمة الهواتف الذكية كان بطيئة، سيئة ولا تدعم العربية، لذلك كان علينا أن ننتظر قليلاً.
في 2009 انطلق WhatsApp، وأصبح لدى “الناس الغلابة” تطبيق ينافس BBM ولو على استحياء، ولكن هذا المنافس القوي استمر في النمو، وبفضل التطور السريع في عالم الهواتف الذكية، والهبوط في أسعار خدمات البيانات، ولأنه ليس حصرياً على منصة معينة فإن ذلك يعني أنك تستطيع أن تراسل أي شخص في أي مكان بغض النظر عن الهاتف الذي يملكه، ورغم تمسك أصحاب BBM بموقفهم واحساسهم بالفوقية، إلا أن عالم التراسل الفوري انقلب رأساً على عقب، وأصبح WhatsApp هو المتحكم وتوقفت خدمة BBM رسمياً في مايو 2019.
هذه المرحلة شكلت طبيعة التراسل الحالي، وهي التي علمتنا “اتيكيت” التراسل.
الحالة “متواجد”
بعد أن تشبع سوق الهواتف الذكية، وأصبح في يد الصغير قبل الكبير، حدث نوع من التحول الفكري في عقولنا كمجتمع، فقد أصبحنا نفترض أننا وجود الهواتف في جيوبنا وجيوب الآخرين طوال الوقت هو دعوة مفتوح للتواصل. كان الأمر مسلياً في البداية، فقد كنا نكتشف التقنية وامكانياتها المختلفة، ولكن الأمر تحول لفوضى عارمة تحتاج إلى وقفة وتأمل.
لقد حاولت أكثر من مرة أن اوضح للناس أن التراسل ≠ الحديث، لكن هيهات. فبمجرد أن ترد على رسالة، فإن ذلك قد يتحول لمحادثة كتابية طويلة مليئة بلحظات الانتظار، وسيطول انتظارك أكثر لو كان الشخص على الطرف الآخر يصحح أخطاءه الإملائية الكثير. مثل هذه المحادثات مَضيعة للوقت، فالمحادثة التي تستغرق منك 20 دقيقة تستطيع أن تنهيها في مكالمة مدتها 3 دقائق، ولن أتطرق عن الأسباب التي تدعو الناس لمثل هذه التصرفات فهذا حديث لوقت آخر.
نعود الآن إلى جملة “السلام عليكم، كيف حالك؟” وأشكال المختلفة “سلام…موجود؟”…”مرحبا ثمود، ممكن سؤال؟”.
كل هذه الجمل هي جمل تستخدم للحديث المباشر وجهاً لوجه، واستخدامها في برامج التراسل الفوري حتى لو بدا منطقياً في البداية، لكنها ليست منطقية.
يجب أن ندرك أن برامج التراسل الفوري ليست بديلاً للحديث المباشر والنقاش، بل يمكنك النظر إليها كنسخة محسنة من البريد من الإلكتروني، وحين تنظر لها من هذا المنظور، سوف يختلف استخدامك قليلاً. فبدل أن تكتب لي التحية في 3 سطور، أو أن تنتظر مني الرد على السلام كيف تطرح علي سؤال، فكل ماعليك فعله هو كتابة الرسالة بشكل كامل وإرسالها.
لا تنتظر أن تتغير حالتي إلى “متواجد” فهذه الكلمة لا تعكس الحقيقة. كوني قد قرأت الرسالة لا يعني أنني احتاج إلى الرد مباشرة، فحياتي تدور في فلك منفصل عن حياتك، لذلك سأرد عليك في الوقت المناسب لي، ولو كان الموضوع لا يحتمل التأخير فقم بالاتصال بي، لكن لا تتوقع مني أن أرد عليك أيضاً..!!
أحد عيوب التطور الذي يحدث هذه الأيام هو الإحساس المستمر بالاستعجال والحاجة إلى الحصول على كل شيء الآن، يجب أن ترد على رسالتي الآن، أجب على اتصالي الآن، لقد قمت بكتابة تغريدة، قمت بمشاركتها مع الآخرين الآن…الآن…الآن.
يجب أن نتوقف قليلاً، نتنفس ونتفكر في سلبيات التقنية التي شكلت عادات سيئة، لنحاول معالجتها، وأول شيء يجب أن تتخلى عنه هو كتابة “كيف الحال” وانتظار الرد، وقم بكتابة رسالتك كاملة.
The post أنا لست موجوداً: في نقد التراسل الحديث is republished from عالم التقنية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق